على مدا أعوام طويلة طال فيها الحكم العثماني مقاليد الأمور في مصر، فكان الولاة عليها إما صالحون وإما يسعون في الأرض فسادًا يبطشون ويظلمون، يسرقون وينهبون، يروعون ويهددون.
الخديوي عباس حلمي الثاني كان واحدًا من العثمانيين الذين عشقوا مصر وأخلصوا لها ولأبنائها، فحملته الأرض والشعب وظلت ذكراه ذات طبيعة خاصة.
هو سابع من حكم مصر من أسرة محمد على، وآخر خديوي لمصر والسودان، وأمه هي أمينة هانم إلهامي حفيدة السلطان العثماني عبد المجيد الأول ولد في مثل هذا اليوم 14 يوليو 1874 وتوفى في 19 ديسمبر 1944، لُقب بأبو المتحفيين المصريين، حيث يرجع الفضل إليه في تأسيس المتاحف المصرية.
في مثل هذا اليوم، يوم الجمعة 8 يناير 1892، وردت إليه في مدينة فيينا برقية من رئيس مجلس النظار تبلغه بوفاة أبيه فاستعد للعودة إلى مصر، وفي اليوم التالي وصلت إلى رئيس مجلس النظار المصري برقية من الصدر الأعظم للدولة العثمانية بتولية عباس حلمي باشا خديوية مصر، وفقًا لفرمان وراثة الخديوية المصرية، ولذلك لكونه أكبر أبناء الخديوي المتوفى، وكلّف الصدر الأعظم رئيس مجلس النظار ـ بالاشتراك مع هيئة نظاره ـ بإدارة شؤون البلاد لحين وصول عباس حلمي إلى مصر.
منذ اليوم الأول الذي وصل فيه عباس حلمي الثاني إلى مصر، وهو يحاول التقرب والتودد إلى المصريين، لينتهج نهج الكفاح والنضال ضد الاحتلال الإنجليزي ومحاولًا ترسيخ سياسات الإصلاح، فبعد عام من توليه الحكم أقال وزارة مصطفى فهمي باشا، فوقعت أزمة مع إنجلترا، وتحدى المندوب السامي البريطاني لورد كرومر فأدى ذلك إلى زيادة شعبيته، فعندما ذهب لصلاة الجمعة في مسجد الحسين في 11 يناير 1893 دوت الهتافات بحياته وارتفع صوت الدعاء له وعبر الجميع عن حبهم له.
لم تنل قراراته رضا اللورد، الذي أرسل لوزارة الخارجية في بريطانيا يتحدث عن كلمات عباس ووعد إنجلترا بترك مصر وشرفها مقيد بهذا الوعد، وهذا لم يُعجبه، لكن عباس لم يبال وسافر للأستانة ليشكر السلطان عبد الحميد الثاني على الثقة التي أولاها له ولينال تأييده على الخطوات العودة المصرية لحضن الخلافة، وقد ذكر الخديوي في مذكراته أن السلطان عبد الحميد الثاني شجعه على معارضة إنجلترا.
عاد الخديوي مبتهجًا وواصل سياسة التحدي للاحتلال، وبإيعاز منه قررت لجنة مجلس شورى القوانين رفض زيادة الاعتماد المخصص للجيش البريطاني وتخفيض ضرائب الأطيان وتعميم التعليم، فاتهمه الإنجليز بأنه نسق مع نظارة مصطفى رياض باشا ولجنة المجلس، ولهذا اضطرت نظارة مصطفى رياض باشا للرضوخ لرغبة الإنجليز وزيادة الاعتمادات.
اعتبرت انجلترا تصرفات الخديوي بأنها يُعاملها معاملة الأعداء، وهددت بخلعه في حين عدم تخليه عما يبدر منه، بعدما أبدى بعض الملاحظات للقائد العسكري البريطاني كتشنر حول عدم كفاءة جيشه، الأمر الذي اعتبره الأخير إهانة له ولبلاده فبادر بإبلاغ سيده كرومر.
كرومر اشتعل غضبًا، وأراد رد الإهانة، فطالب من الخديوي إصدار أمرًا عسكريًا يثني فيه على الجيش، فاضطر للإذعان في 21 يناير 1894. وإمعانًا في إذلاله طلبوا منه تغيير النظارة الحالية بأخرى بزعامة نوبار باشا.
واستمرت بريطانيا في محاولاتها لاستفزاز الخديوي عباس حلمي الثاني، وطلبت منه إقالة قاضي القضاة العثماني وتعيين قاضي آخر مصري، لكن عباس فصرح أن تعيين قاضي شرعي في مصر ليس من سلطته ولكن من سلطة الخليفة الأعظم، وفي لقائه مع لورد كرومر تمكّن الخديوي عباس من فرض وجهة نظره ليحقق انتصار سياسي بعد عدة هزائم.
في عهده وعام عام 1906 وقعت حادثة دنشواي الشهيرة وعقدت محاكمة للأهالي وصدر ضدهم أحكام قاسية، وسافر مصطفى كامل لإنجلترا وشرح المأساة حتى نجح في خلق رأي عام ضد سياسة لورد كرومر في مصر، واستجابت الحكومة البريطانية ومجلس النواب، وهاجم الأديب أيرلندي جورج برنارد شو الاحتلال، فأعفي لورد كرومر من منصبه في 12 أبريل 1907.
في حفل وداع كرومر أثنى المندوب السامي البريطاني على الخديوي توفيق وعلى نوبار باشا وتجاهل الخديوي عباس، وأعلن اللورد أن الاحتلال البريطاني سيدوم وذلك في تحد له وللمصرين، وفي 7 يناير 1908 أعلن العفو عن 9 من المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة في حادثة دنشواي.
حاول الشاب محمود مظهر اغتيال الخديوي في 25 يوليو 1914، وتسبب هذا الحادث في تأخير عودته لمصر في الوقت الذي نشبت فيه الحرب العالمية الأولى ولم يعد السفر عبر البحار مأمونًا، وطلب السفير الإنجليزي في تركيا من الخديوي العودة إلى مصر، إلا إنه تردد فطلب منه أن يرحل إلى إيطاليا إلى أن تسمح الظروف بالعودة إلى مصر، إلا إنه رفض.
وقال عباس حلمي الثاني عن محاولة اغتياله: “شعرت بانقباض صدر قبلها، وعندما رأيت الشاب يصوب المسدس إلي تمكنت من الإمساك بيده الممسكة بالمسدس ودفعه بعيدًا في الوقت الذي لم يتحرك فيه الحرس إلا متأخرًا وأصابني بعض الرصاص ولكن في مناطق غير مميتة وتناثرت الدماء على ملابسي وكيس نقودي ولكنها لم تصل إلى المصحف الذي كنت أحمله وهذا من لطف الله وحتى لو وصلت إليه لما مس هذا من قداسته”.
حينها كانت الحرب حتى ذلك الوقت بين إنجلترا وألمانيا، إلا أن إنجلترا تعرف إنه كان هناك عداء تركي للإنجليز جعلهم يتشككون في نواياه.
كانت جميع الجهات في بريطانيا عدا الخارجية تطالب بخلعه، وفي 19 ديسمبر 1914 صدر القرار بعزله وجاء فيه: “يعلن وزير الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر لإقدام سمو عباس حلمي باشا خديوي مصر السابق على الانضمام لأعداء جلالة الملك رأت حكومة جلالته خلعه من منصب الخديوي”، وفي 21 مايو 1914 استقل يخت المحروسة في رحلة للخارج، وكان هذا آخر عهده في مصر، وكان آخر ما فعله توقيع أمرين بتنقلات وترقيات لرجال القضاء الأهلي ووضع سلطاته لرئيس الوزراء، وأقام بعد مغادرته مصر في فرنسا متنكرًا، ثم غادرها لتركيا.
بقي المصريون فترةً طويلةً من 1914 إلى 1931 يهتفون في مظاهراتهم ضد الاستعمار بـ”عباس جاي” على أساس أنه رمز لسيادة مصر ونهاية الحكم الإنجليزي وأن خلعه تم من جانبٍ واحدٍ دونما موافقةٍ من قبله أو السلطان العثماني صاحب الحق الرسمي بتعيين حاكم مصر، لكنه تنازل عن كافة حقوقه في عرش مصر بعد مفاوضاتٍ أجراها رئيس الوزارة إسماعيل صدقي باشا مقابل ثلاثين ألف جنيهٍ دفعتها الحكومة المصرية.
توفي الخديوي عباس حلمي الثاني في منفاه في سويسرا في 19 ديسمبر 1944 أثناء حكم الملك فاروق لمصر .. من الصدف أن تاريخ وفاة الخديوي عباس حلمي الثاني يوافق نفس تاريخ خلعه عن الحكم بعد 30 عاما، ونظرًا لظروف الحرب العالمية الثانية وقت وفاة الخديوي عباس حلمي الثاني عاد جثمانه إلى مصر في 26 أكتوبر 1945 وتم دفنه في “تربة أفندينا” وهي مقابر أسرة الخديوي توفيق بالقاهرة.