الحضارة الهندية واحدة من الحضارات القديمة المرشحة للعودة إلى ساحة المنافسة الدولية بقوة في الفترة المقبلة، بل إن كثيرين من الباحثين والمراقبين للساحة الدولية، يرون في صعود الهند والصين وعودة روسيا إلى ساحة الفعل الدولي، نهاية لمرحلة القطب الواحد التي انفردت بها الولايات المتحدة طيلة نحو ثلاثة عقود.
ويقدم كتاب الحضارة الهندية للباحث خزعل الماجدي، الصادر خلال العام الحالي عن دار الرافدين ومنشورات دار تكوين، إطلالة شاملة على الحضارة الهندية منذ بدايتها حتى اليوم، كواحدة من أقدم الحضارات البشرية المتواصلة خلال كل مراحل التاريخ.
وفي الكتاب تفصيل لكل الإرث الحضاري الهندي العريق، بكل تنوعاته الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأدبية والفنية والعلمية والمادية والتقنية والنفسية والأخلاقية.
والكتاب يقدم، لأوّل مرة، باللغة العربية، هذا الكم الهائل من المعلومات والتحليلات الجديدة النوعية لواحدة من أعرق الحضارات التي بناها الإنسان ولايزال نبضها مسموعا وقادرا على أن يقدم للبشرية طرقا جديدة في التحضر والتوازن بين ما هو مادي وروحي.
يقول المؤلف في مقدّمة كتابه إن حضارة الهند هي المثل الأعرق والنموذجي لحضارة واحدة متراصة في كل عصور التاريخ، فالحضارات التي رافقتها اندثرت وجاءت غيرها في المكان نفسه، فعلى سبيل المثال، انتهت الحضارة السومرية في 2006 ق.م، وانتهت الحضارة المصرية القديمة في 322 ق.م، وانتهت الحضارة الآشورية في 611 ق.م، والحضارة البابلية في 539 ق.م، والحضارة الفارسية في 638 ق.م، والحضارة الرومانية في 476م… إلخ. أما الحضارة الهندية فمازالت مستمرة، وإن تعرضت للهزات التاريخية الكبرى والقطع والثلم هنا وهناك؛ لكنها مازالت موجودة.
وما يلفت النظر في الحضارة الهندية هو تميزها في الجوانب العلمية والدينية في آن واحد، وثراؤها الهائل في الجوانب الفنية والثقافية، فالعلماء الهنود برعوا براعة استثنائية في الرياضيات بشكل خاص، وقدموا في الطب براعة نادرة لا نجدها في تراثات الشعوب الأخرى.
في الفصل الأول من الكتاب (مقدمة تعريفية بالهند وجغرافيتها وعلم الهنديات «إندولوجي»)، يعدد المؤلف بعض أسماء الهند ويشرح معانيها. فاسم «هند» مشتق من (إند) وهو (إندوس) أي نهر إندوس (هندوس) الموجود في بلاد السند شمال غرب الهند، ومكانه الحالي في باكستان، وهذه التسمية فارسية أولا ثم استعملها الإغريق (إندو)، و«هندوستان» هي كلمة فارسية معناها (بلاد النهر).
وتبلغ مساحة الهند 3.3 مليون كيلو متر مربع، وعدد سكانها، حسب إحصائية البنك الدولي لعام 2018، نحو مليار و340 مليون نسمة.
وفي الفصل الثاني من الكتاب، يتحدث المؤلف عن مراحل بارزة في تاريخ الهند منذ عصور ما قبل التاريخ (العصور الحجرية إلى التاريخ القديم لها، وفيه المرحلة السندية والمرحلة الفيدية، وصولا إلى التاريخ الوسيط والتاريخ الحديث والتاريخ المعاصر للهند (1947 – حتى الآن)، وهي المرحلة التي ظهرت فيها القومية الهندية، بمعناها السياسي الجديد، في القرن التاسع عشر بعد دخول عمليات التحديث والإصلاح، وشعور الهنود بضرورة حكم بلدهم واستثمار خيراتهم. وقد أدّى الصراع المسلح مع البريطانيين دورا مهما في يقظة القومية الهندية.
وفي الفصل الثالث (المظهر السياسي)، يتحدث المؤلف عن نظام الحكم في الهند، والذي يشمل أنظمة الحكم ونظام الإدارة.
فقد تنوعت أنظمة الحكم والإدارة في الهند بأشكال مختلفة جمعت أغلب نظم الحكم السياسية في العالم، ومنها دويلات المدن، والنظام الملكي، والنظام الإمبراطوري، وأخيرا النظام الجمهوري، وقد نشأ نظام الجمهورية الحديث في الهند في عام 1947، وهو نظام برلماني فيدرالي تتكون فيه الهند من 26 ولاية. وتقوم الحكومات الفيدرالية بواجبات رئيسة هي: الدفاع، والعلاقات الخارجية، والضريبة، وتسجيل الولادات والوفيات، ووضع الخطط الاقتصادية والصناعية.
وفي الفصل الرابع من الكتاب (المظهر الاجتماعي)، يقول المؤلف إن مرجع التشكيل الاجتماعي الطبقي الهندي هو الفكر الديني الفيدي والهندوسي عموما، الذي هو بمثابة المنظم الداخلي العميق للمجتمع الهندي، ويذهب المؤلف إلى أنه ورغم التقسيم الطبقي الجائر الذي أوجد تناحرا حادا بين مكوناته، وحجب الطريق أمام الكفاءات والمواهب وأفقد المجتمع العدالة، إلا أنه يبدو راسخا بقوة بين الهنود لأنه من جذور دينية قوية.
ويتناول المؤلف في الفصل الخامس من الكتاب (المظهر الاقتصادي)، حيث يقدر أن اقتصاد حضارة وادي السند كان يميل إلى أن يكون تجاريا، وأتت الزراعة بالدرجة الثانية من اقتصاد السند، وقد تمكن أهل وادي السند من تحويل القطن، لأول مرة، إلى ملابس حوالى عام 2000 قبل الميلاد، حيث قاموا بغزل نسيجه وتحويله إلى قماش، وهو ما نشط تجارتهم الداخلية والخارجية.
وفي الفصل السادس (المظهر الديني)، يورد المؤلف أعداد أفراد الديانات الموجودة في الهند، وأكبرها الهندوسية، التي يبلغ عدد أفرادها نحو مليار نسمة (966.3 مليون)، والإسلام (172.2 مليون) والمسيحية (27.8 مليون) والسيخ (20.8 مليون) والبوذية (8.4 مليون).
ويُفرد المؤلف مساحة واسعة في كتابه للحديث عن تاريخ الديانة الهندوسية، حيث يرى الهنود أنها ليست ديانة بالمعنى المألوف، بل هي (طريقة حياة)، كونها هضمت عبر تاريخها الطويل، كل التبدلات والتحولات والمؤثرات التي مرت بها وأعادت نشرها في داخل عقائدها وتكوينها.
وتركز بقية فصول الكتاب على المظاهر الثقافية للهند وتطورها العلمي القديم والحديث، وبخاصة في مجالات الرياضيات والتقنيات الحديثة، إضافة إلى دور الهند في تطوير الفنون العالمية، بداية من الفنون اليديوية القديمة، واختراع ألعاب عالمية مثل الشطرنج، وصولا إلى امتلاك ثاني أكبر إنتاج سينمائي عالميا بعد الولايات المتحدة.