لم تكن حرب أكتوبر 1973 مجرد معركة عسكرية دارت رحاها بين جيشين، بل كانت حدثاً مفصلياً في تاريخ الأمم، وشاهداً على انتصار الإرادة الإنسانية عندما تتحد وتصمم على تغيير واقعها. لقد كانت، في جوهرها، انتصاراً للإرادة المصرية التي رفضت الاستسلام للهزيمة، وتحدت منطق القوة المفروض، ونجحت في نحت مسار جديد للكرامة والتحرر.
الأهمية التاريخية والاستراتيجية: كسر أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”
في وقتها، لم يكن الهدف مجرد عبور قناة السويس واسترداد شبر من الأرض، بل كان الهدف الأعمق هو “كسر الحاجز النفسي” الذي خلفته نكسة 1967. كانت “أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر” هي السلاح غير الملموس الذي هيمن على العقل الجمعي والإقليمي. جاء العبور البطولي في السادس من أكتوبر ليحطم هذه الأسطورة إلى الأبد.
لقد أثبتت المعركة للعالم أجمع أن الجندي المصري، عندما يتسلح بالإيمان والتدريب العلمي الرصين والتخطيط المحكم، قادر على صنع المعجزات. لم يكن الانتصار محض صدفة، بل كان ثمرة تخطيط استراتيجي دقيق امتد لسنوات، بدأه الرئيس جمال عبد الناصر وتبناه وقاده بحنكة الرئيس أنور السادات، الذي اتخذ القرار التاريخي بالحرب، مؤمناً بأنه “لا سلام بدون قوة، ولا قوة بدون وحدة”.
الانعكاسات على الدولة المصرية: من بوابة العبور إلى بوابة السلام
لم تقتصر آثار الانتصار على المجال العسكري، بل امتدت لتعيد تشكيل الدولة المصرية الحديثة من حيث:
- استعادة السيادة والكرامة: حررت الحرب أراضي سيناء بالكامل من الاحتلال، وأعادت للدولة المصرية هيبتها الدولية والإقليمية. لم تعد مصر دولة مهزومة، بل شريكاً إقليمياً يُحسب حسابه.
- تمهيد الطريق للسلام: كان الانتصار العسكري هو الرافعة السياسية التي مكنت الرئيس السادات من اتخاذ خطوة السلام الجريئة بزيارة القدس عام 1977، لتتوج لاحقاً بتوقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979. لقد أثبتت مصر أن الحرب ليست غايتها، بل وسيلة لتحقيق سلام عادل وشامل.
- إعادة توجيه الموارد: سمح الانتصار وتحقيق الاستقرار النسبي للدولة المصرية بتحويل جزء كبير من مواردها من الإنفاق العسكري الضروري إلى مشاريع التنمية والبناء، رغم كل التحديات اللاحقة.
تأثير الانتصار على مصر الحاضر: دروس لا تُنسى
اليوم، ونحن نعيش في زمن تختلف فيه طبيعة التهديدات، يظل تراث أكتوبر حياً ونبراساً ينير الطريق:
* قوة الردع: يشكل الانتصار ركيزة أساسية لاستراتيجية الردع المصرية. فهو يذكر كل من تسوّل له نفسه بتبني سياسات عدائية أن أمامه جيشاً وشعباً قادرين على الدفاع عن الوطن ببسالة نادرة.
* وحدة الصف: تذكرنا “حرب التحرير” بأن أعظم الانتصارات تتحقق عندما يتوحد الجيش والشعب تحت قيادة سياسية واحدة. هذه الوحدة هي الضمانة الأكيدة لمواجهة التحديات المعاصرة، سواء كانت حروباً تقليدية أو حروب الجيل الرابع والخامس التي تستهدف استقرار الدول من الداخل.
* الإرادة والسيادة الوطنية: في ظل نظام دولي متقلب، يؤكد انتصار أكتوبر أن القرار الوطني المستقل هو أغلى ما تملكه الأمم. فهو درس في أن الاعتماد على الذات والتصميم على تحقيق الأهداف الوطنية هما سبيل البقاء والنهضة.
طرق الحروب المختلفة ووعي المواطن المصري
لقد تغيرت طبيعة الحروب، فبجانب الحروب التقليدية (بأسلحة الجيش النظامي)، برزت “حروب الجيل الرابع” التي تستهدف العقل والوجدان عبر:
* الحرب الإعلامية ونشر الشائعات.
* الحرب النفسية لتمزيق النسيج الاجتماعي.
* الحرب الاقتصادية لزعزعة الاستقرار.
* الحرب الإلكترونية لاستهداف مقومات الدولة.
وهنا تبرز أهمية وعي المواطن المصري كجندي في معركة البقاء. فكما كان الجندي يحمي الحدود ببندقيته، أصبح المواطن مطالباً اليوم بحماية وطنه:
* بوعيه: برفض الإشاعات والتحقق من المعلومات.
* بإنتاجه: بالإخلاص في العمل لبناء اقتصاد وطني قوي.
* بوحدته: برفض محاولات التفريق بين أبناء الوطن الواحد.
* بثقافته: بفهم التحديات الإقليمية والدولية وإدراك أبعادها.
جهود القادة المشاركين: عقول وأيدي صنعت النصر
لا يمكن الحديث عن أكتوبر دون إلقاء الضوء على الرجال الذين صنعوا المجد:
* الرئيس محمد أنور السادات: صاحب “القرار السياسي” التاريخي والمخاطرة المحسوبة. كان الإعداد والدبلوماسية (مع الاتحاد السوفيتي سابقاً والدول العربية) جزءاً من استراتيجيته لخلق الظروف المواتية للحرب.
* الفريق سعد الدين الشاذلي: رئيس أركان حرب القوات المسلحة آنذاك، ومهندس خطة العبور الرئيسية “جرانيت 2″، التي اعتمدت على المفاجأة وتجميع القوات بعبقرية فذة.
* الفريق أول محمد عبد الغني الجمسي: رئيس هيئة العمليات، ورأس العبقرية التكتيكية في إدارة المعركة، وأدارها ببراعة حتى في أحلك الظروف.
* الفريق محمد علي فهمي: قائد قوات الدفاع الجوي، الذي نسج “الحجاب الواقي” أو “شبكة الصواريخ” التي حمت السماء المصرية وحطمت تفوق العدو الجوي، وهو العامل الحاسم في نجاح العبور.
* الفريق أحمد إسماعيل علي: وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة، الذي قاد عملية التخطيط الشامل والتنسيق بين الأفرع المختلفة.
* اللواء طيار محمد حسني مبارك: قائد القوات الجوية خلال الحرب. كان لدوره أثر حاسم في الضربة الجوية الأولى، التي نفذتها أكثر من 200 طائرة حربية في وقت واحد لتضرب أهداف العدو الحيوية في سيناء بعمق. نجحت هذه الضربة، تحت قيادته، في تحييد نحو 90% من أهداف العدو الجوي وتدمير محطات الرادار والتشويش عليها، مما وفر الغطاء الجوي الآمن الذي سمح لقواتنا بالعبور البطولي وتدمير خطوط العدو الدفاعية “خط بارليف”. كانت هذه الضربة هي كالصاعق الذي فجر المعركة، وأذهلت العالم بدقتها وتوقيتها، وأثبتت جدارة القوات الجوية المصرية في خوض معركة وجود.
إن انتصار أكتوبر لم يكن لحظة عابرة في التاريخ، بل هو عقيدة متجددة. إنه إثبات على أن الإرادة تصنع المستحيل، وأن العلم والتخطيط هما سلاحا العصر، وأن وعي المواطن هو حصن الوطن الأخير. في ذكرى هذا النصر المجيد، يظل الدرس الأكبر هو أن مصر، عندما تتوحد إرادة قيادتها وجيشها وشعبها، لا يقف في طريقها شيء، وهي قادرة دوماً على كتابة فصول جديدة من العزة والكرامة. وتظل الضربة الجوية الأولى بقيادة البطل محمد حسني مبارك ونخبة الطيارين الأشاوس، هي اللحظة التي استعادت فيها مصر سماءها، ورسخت في الذاكرة العالمية صورة الجندي المصري القادر على اقتحام المستحيل.
الأستاذ الدكتور/ مجدي فاروق السماحي
أستاذ النانوتكنولوجي ووقاية النبات – معهد بحوث وقاية النباتات – مركز البحوث الزراعية
وكيل محطة البحوث الزراعية بسخا الأسبق
رئيس فرع الاتحاد العربي للتنمية المستدامة والبيئة بكفر الشيخ
مسئول برنامج مطبقي المبيدات بمحافظة كفر الشيخ
المشرف العلمي لدودة الحشد الخريفية بمحافظة كفر الشيخ
عضو مجلس إدارة جمعية مجلس علماء مصر
عضو لجنة أخلاقيات البحث العلمي بجامعة كفر الشيخ
مستشار مجلس إدارة المجلة العلمية أهرام قسم العلوم
أمين حزب حماة الوطن بكفر الشيخ الأسبق