تهدد التغيرات المناخية، المتمثلة في ارتفاع مستوى سطح البحر وزيادة ملوحة التربة والمياه، الأمن الغذائي العالمي، وخاصة في المناطق القاحلة وشبه القاحلة.
يعتبر نبات الساليكورنيا (نبات زجاجي أو سالي) كحل طبيعي وواعد. ينتمي الساليكورنيا إلى مجموعة النباتات الملحية Halophytes التي تزدهر في البيئات عالية الملوحة.
سنقدم الخصائص الفسيولوجية الفريدة التي تمكنه من تحمل الملوحة، واستخداماته المتعددة كغذاء بشري، وعلف للحيوان، ومصدر للوقود الحيوي والزيوت، وأهميته في التكيف مع التغير المناخي والتخفيف من آثاره.
المقدمة
تشكل التغيرات المناخية تحديًا وجوديًا للقطاع الزراعي التقليدي. حيث يتسبب ارتفاع درجة حرارة الأرض وذوبان الجليد في ارتفاع منسوب مياه البحر، مما يؤدي إلى تداخل المياه المالحة مع الطبقات الجوفية الساحلية (تملح المياه الجوفية). بالإضافة إلى ذلك، تساهم أساليب الري غير المستدامة في تملح مساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة. وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة(FAO)، فإن نسبة كبيرة من الأراضي الزراعية المروية في العالم تعاني من درجات مختلفة من التملح (1). في هذا السياق، يبرز نهج “الزراعة الملحية” الذي يعتمد على زراعة أنواع نباتية متكيفة مع الملوحة، وعلى رأسها نبات الساليكورنيا، ليس كخيار بديل فحسب، بل كاستراتيجية استباقية ذكية للتكيف مع الظروف المناخية المستقبلية.
(نباتات ساليكورنيا تنمو في منطقة ساحلية)
الخصائص الفسيولوجية والتكيفية للساليكورنيا
يتميز الساليكورنيا بمجموعة من الآليات التي تمكنه من النجاح في بيئات قاسية:
- تحمل الملح الفائق Euhalophyte : يعتبر نباتًا ملحيًا obligate، أي أنه يتطلب وجود ملح للنمو الأمثل. يستطيع النمو في مياه تزيد ملوحتها عن ملوحة مياه البحر (أكثر من 40 ديسيسيمنز لكل متر.
- آلية إفراز الملح Salt Secretion: تمتلك بعض أنواعه غددًا ملحية متخصصة في أوراقها وسيقانها تفرز الأملاح الزائدة إلى الخارج، مما يحافظ على التوازن الأيوني داخل الخلية.
- آلية تجميع الملح Salt Inclusion: في أنواع أخرى، يقوم النبات بتخزين الأيونات السامة (الصوديوم والكلوريد) داخل فجوات عصارية خاصة في خلاياه، مما يقلل من تركيزها في السيتوبلازم ويحمي العمليات الأيضية الحيوية. تعمل هذه الأملاح أيضًا على خفض الجهد الاسموزي، مما يسهل على النبات امتصاص الماء من التربة المالحة.
- التمثيل الضوئي (الآلية C3 ): رغم كونه نباتًا من فصيلة الـC3، إلا أن تكيفه التشريحي يسمح له بالحفاظ على كفاءة عالية في ظل الإجهاد الملحي.
- السيقان النضرة Succulence: يتميز بسيقان عصارية خضراء لحمية تقوم بعملية التمثيل الضوئي بدلاً من الأوراق (المختزلة في الكثير من الأحيان)، وتعمل أيضًا كخزانات للماء.
صورة بالمجهر الإلكتروني تظهر بلورات ملح على سطح ساق نبات الساليكورنيا، آلية إفراز الملح.
أ) التصميم الهيكلي الهرمي لمبخر المياه الشمسي المقاوِم للملوحة؛
ب) صورة فوتوغرافية تُظهِر المنظور العلوي والسفليّ والمقطع العرضي لمبخر المياه الشمسي
ج) صورة المجهر الإلكتروني الماسح (SEM)
د) خرائط توزيع العناصر (أيونات الصوديوم +Na والكلوريد -Cl) للهلاميّة الكهرليّة متعددة البوليمرات ذات البنية المساميّة متوسطة الحجم.
الأهمية الاقتصادية والاستخدامات
لا يقتصر دور الساليكورنيا على تحمل الملوحة فحسب، بل يقدم قيمة اقتصادية عالية:
- غذاء بشري (السبانخ البحرية): يعتبر من “الأطعمة الخارقةSuperfood ” براعمه الصغيرة والسيقان الطرية ذات طعم مالح مقرمش، وتستخدم في أطباق المطاعم الذواقة. غني بالفيتامينات A, C, B، والمعادن Ca, Mg, K, I، ومضادات الأكسدة.
- علف للحيوان: يمكن استخدام الكتلة الحيوية المتبقية بعد الحصاد كعلف غني بالمعادن للماشية والأغنام والإبل، مما يقلل الاعتماد على الأعلاف التقليدية.
- الزيت والوقود الحيوي: تحتوي بذور بعض أنواع الساليكورنيا مثل Salicornia bigelovii على نسبة عالية من الزيت (28-33%)، يشبه في تركيبته زيت عباد الشمس، ويمكن استخدامه للطهي أو في إنتاج الوقود الحيوي.
- استصلاح الأراضي Phytoremediation : يمكن استخدامه في استصلاح الأراضي الملحية عن طريق امتصاص الأملاح من التربة Bio-desalination، وتحسين خواصها بمرور الوقت.
- المنتجات الثانوية: يمكن استخراج مركبات عالية القيمة مثل البوليساكارايدات والأصباغ الطبيعية منه.
الساليكورنيا والتغير المناخي: التكيف والتخفيف
يمثل الساليكورنيا أداة فاعلة في مواجهة التغير المناخي:
التكيف Adaptation:
مرونة النظام الغذائي: يوفر مصدرًا للغذاء والعلف من أراضي كان يعتقد أنها غير صالحة للإنتاج، مما يعزز صمود المجتمعات الساحلية والزراعية أمام تملح الأراضي.
حماية التنوع الحيوي: زراعته توفر موئلاً للطيور والكائنات الحية في النظم البيئية الساحلية المتضررة.
التخفيف Mitigation:
امتصاص الكربون Carbon Sequestration: مثل غيره من النباتات، يقوم بامتصاص ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي وتخزينه في كتلته الحيوية وفي التربة.
بديل للوقود الأحفوري: الوقود الحيوي المنتج من زيت بذوره يعد مصدرًا للطاقة المتجددة، مما يساهم في خفض انبعاثات الكربون مقارنة بالوقود الأحفوري.
(حقل زراعي تجريبي للساليكورنيا يُروى بمياه البحر)
زراعة نبات الساليكورنيا Salicornia spp.
تعتبر زراعة الساليكورنيا استثمار في “الزراعة الملحية”، وهي تختلف عن الزراعة التقليدية. النجاح يعتمد على فهم احتياجاتها الفريدة.
الظروف البيئية المثلى
- الماء والملوحة:
يمكن استخدام مياه البحر مباشرة، أو مياه صرف صحي معالجة، أو مياه مالحة من الآبار. بالنسبة لمستوى الملوحة يزدهر النبات في مدى ملوحة واسع، من 15 جزء في الألف (ppt) إلى أكثر من 45 جزء في الألف (ملوحة مياه البحر ~35 جزء في الألف). (الملوحة المثلى للإنتاج التجاري للكتلة الحيوية تتراوح بين 10-20 جزء في الألف).
طريقة الري: أنظمة الري بالتنقيط أو الري بالغمر (إذا كانت التربة مسامية بما يكفي لتصريف المياه الزائدة). الري بالتنقيط أكثر كفاءة ويوفر الماء.
- التربة:
النوع: تربة رملية أو طميية رملية جيدة التصريف هي الأفضل. التربة الطينية الثقيلة التي تحتفظ بالماء قد تسبب تعفن الجذور.
الصرف: الصرف الجيد هو المفتاح المطلق للنجاح. يجب ألا تغمر المياه منطقة الجذور بشكل دائم.
- المناخ:
يحتاج إلى مناخ دافئ ومشمس. يتحمل الحرارة العالية وأشعة الشمس المباشرة.
حساس للصقيع. موسم النمو يجب أن يكون خاليًا من فترات البرد القارس.
خطوات الزراعة العملية
- الإكثار والتكاثر:
الطريقة المثلى: البذور، البذور صغيرة جدًا (شبيهة ببذور الطماطم) وتحتاج إلى معاملة خاصة.
المعاملة: نقع البذور في ماء عذب لمدة 24-48 ساعة لكسر سكونها وتحسين نسبة الإنبات.
الزراعة: تزرع البذور في أصص أو صواني تحتوي على خليط تربة رملية معقم. لا يتم دفنها بعمق، بل تُنثر على السطح وتُضغط برفق.
الري: ترش البذور برذاذ ناعم من الماء العذب حتى الإنبات لتجنب ارتفاع الملوحة في هذه المرحلة الحرجة.
تنبت البذور عادةً في غضون 7-14 يومًا في درجة حرارة ~20-25°م.
طريقة بديلة: العقل.
يمكن أخذ عقل ساقية من نبات قوي وزراعتها مباشرة في تربة رطبة. هذه الطريقة أسرع ولكنها أقل شيوعًا في الزراعة واسعة النطاق.
- التحضير والزراعة في الأرض المستديمة:
تحضير الأرض: حراثة الأرض وتسويتها جيدًا. من المهم إنشاء أحواض أو مصاطب ذات تصريف ممتاز.
موعد الزراعة: بعد انتهاء خطر الصقيع، عندما تكون درجة حرارة التربة دافئة (عادة في الربيع).
نقل الشتلات: عندما تصل الشتلات إلى ارتفاع 5-10 سم وتكون قوية بما يكفي، يتم نقلها إلى الحقل.
الكثافة الزراعية: تزرع الشتلات على مسافات تتراوح بين 20-30 سم بين النبات والآخر، وعلى مسافات بين الخطوط تتراوح بين 50-70 سم. هذه الكثافة تسمح بانتشار جيد وتسهل عمليات العناية والحصاد.
- إدارة المحصول:
الري: بعد إنشاء الشتلات، يبدأ الري بالماء المالح تدريجيًا. تزداد ملوحة مياه الري بالتدريج حتى تصل إلى المستوى المطلوب.
التسميد: بشكل عام، يحتاج إلى تسميد قليل. يمكن إضافة سماد عضوي (كمبوست) أثناء تحضير الأرض. السماد النيتروجيني يمكن أن يعزز النمو الخضري، ولكن يجب استخدامه بحذر.
مكافحة الآفات والأمراض: يعتبر نباتًا قويًا ومقاومًا للآفات بشكل طبيعي بسبب ملوحته العالية. المشاكل الرئيسية تكون فطرية أحيانًا (مثل لفحة الساق) في حالة الإفراط في الري وسوء التصريف.
الحصاد والمعالجة
موعد الحصاد: يُحصد الساليكورنيا عندما تكون السيقان غضة، خضراء، وممتلئة (قبل أن تتحول إلى اللون الأحمر أو الأصفر وتصبح قاسية وخشبية). عادة بعد 3-4 أشهر من الزراعة.
طريقة الحصاد:
للأسواق الطازجة (كمنتج غالي): الحصاد اليدوي هو السائد. يتم قطف الأطراف الغضة الطرية (الجزء العلوي ~10-15 سم) مما يشجع النبات على إنتاج نمو جديد ويسمح بحصاد آخر لاحقًا.
للكتلة الحيوية (كعلف أو وقود حيوي): يمكن استخدام آلات الحشّ التقليدية إذا تمت زراعته على نطاق واسع وكثيف.
ما بعد الحصاد: يُغسل الساليكورنيا بالماء العذب لإزالة الملح الزائد والغبار من على سطحه، ثم يُجفف ويُعبأ للبيع طازجًا، أو يُمكن تخليله.
ملخص احتياجات نبات الساليكورنيا
مصدر المياه: مياه مالحة (بحار، آبار مالحة، مياه صرف معالجة)
ملوحة الماء: 15 – 45 جزء في الألف (ملوحة البحر ~35 جزء في الألف)
نوع التربة: رملية أو طميية رملية جيدة التصريف
درجة الحموضة pH : متعددة (6.0 – 8.0)
المناخ: دافئ، مشمس، خالٍ من الصقيع
طريقة التكاثر: البذور (بعد نقعها) أو العقل
موسم الزراعة: الربيع بعد انتهاء خطر الصقيع
الكثافة النباتية: 20-30 سم بين النباتات، 50-70 بين الخطوط
الآفات: قليلة بسبب الملوحة العالية
باختصار، مفتاح نجاح زراعة الساليكورنيا هو: بذور منقوعة، صرف ممتاز، ومياه مالحة.
التحديات وآفاق المستقبل
رغم إمكاناته الواعدة، تواجه الزراعة التجارية للساليكورنيا بعض التحديات:
تطوير آلات الحصاد: الحصاد اليدوي مكلف، وهناك حاجة لتطوير آلات حصاد ميكانيكية مناسبة لطبيعة النبات.
تسويق المنتج: يحتاج إلى بناء سوق مستقر وزيادة الوعي الاستهلاكي بمنتجاته.
بحوث التكاثر: هناك حاجة لبرامج تربية لتحسين الأصناف من حيث الإنتاجية ومحتوى الزيت ومقاومة الأمراض.
ختاماً يمثل نبات الساليكورنيا نموذجًا رائدًا للزراعة المستدامة الذكية مناخيًا. حيث أن تحمله الفائق للملوحة، وقيمته الغذائية والاقتصادية العالية، ودوره في التكيف مع التغير المناخي والتخفيف من آثاره، يجعله محصولًا استراتيجيًا للمستقبل، وخاصة للدول التي تعاني من ندرة المياه والأراضي الملحية، مثل دول الخليج العربي وشمال إفريقيا. يجب أن تركز السياسات الزراعية والاستثمارات البحثية المستقبلية على تطوير سلسلة قيمة كاملة لهذا المحصول الواعد لتحقيق أقصى استفادة من أراضينا الهامشية وضمان الأمن الغذائي في ظل ظروف مناخية متغيرة.
المراجع
FAO. (2021). Global Map of Salt-Affected Soils. Food and Agriculture Organization of the United Nations. Rome.
Ventura, Y., & Sagi, M. (2013). Halophyte crop cultivation: The case for Salicornia and Sarcocornia. Environmental and Experimental Botany, 92, 144-153.
Lillelund, N. H., & Pedersen, S. M. (2021). The Nutritional Composition of Salicornia europaea L. and Its Potential as a Salt Substitute in Food*. Foods, 10(4), 738.
Glenn, E. P., Brown, J. J., & Blumwald, E. (1999). Salt tolerance and crop potential of halophytes. Critical Reviews in Plant Sciences, 18(2), 227-255.
Rozema, J., & Schat, H. (2013). Salt tolerance of halophytes, research questions reviewed in the perspective of saline agriculture. Environmental and Experimental Botany, 92, 83-95.
Ventura, Y., Eshel, A., Pasternak, D., & Sagi, M. (2015). The development of halophyte-based agriculture: past and present. Annals of Botany, 115(3), 529-540.
مقال
الأستاذ الدكتور/ مجدي فاروق السماحي
أستاذ النانوتكنولوجي ووقاية النبات – معهد بحوث وقاية النباتات – مركز البحوث الزراعية
وكيل محطة البحوث الزراعية بسخا الأسبق
رئيس فرع الاتحاد العربي للتنمية المستدامة والبيئة بكفر الشيخ
مسئول برنامج مطبقي المبيدات بمحافظة كفر الشيخ
المشرف العلمي لدودة الحشد الخريفية بمحافظة كفر الشيخ
عضو مجلس إدارة جمعية مجلس علماء مصر
عضو لجنة أخلاقيات البحث العلمي بجامعة كفر الشيخ
مستشار مجلس إدارة المجلة العلمية أهرام قسم العلوم
