في رحاب سيدي أحمد البدوي ..
يتوافد المحبون من كل بقاع الأرض، ما بين مُحبٍ هائمٍ يبحث عن ضالته، وبين حائرٍ يرجو الإجابة، بين مسكين يلتمس الوصول والوصل على بابه.
هنا الكل مجتمع على شيء واحد، هو أن هذا الباب مهما تأخروا، فحتمًا سيكون الوصول.
في رحاب سيدي أحمد البدوي .. تأتي سلمى، تلك الفتاة الرزينة الهادئة، وتُنهي زيارتها، وتجلس هائمة في ذلك المقهى المجاور لسيدها، قهوة الأحمدية، والتي تتحدث جدرانها وأبوابها القديمة، ورائحتها، عن عراقة المكان، تأخذ الروح إلى عالم الخيال، إلى ملجأ أهل الحب لمقام سيدي أحمد البدوي .
تختار سلمى مكانًا مميزًا تجلس فيه، لتكون حبات عيناها الصافيتين خارقة لباب المسجد.. رغم الضجيج والزحام، لا ترى أحد، ولا تسمع، ولا أحد في العالم معها أصلًا، فقط هي هائمة في هذا العالم الذي سكن بين حاجبيها، لا تلتفت يمينًا ولا يسارًا، إنما تسبح في موج المقام، ويغمر ساكن البيت روحها.
هذا الهدوء الجميل، لا يسمح لأحد أن يقترب منها، وكأنها نسجت هالة من النور، وسياج منيع من الحب يعزلها عن عالمنا، لطالما تابعتها في صمت، ولطالما غلبني فضولي رجاءًا أن اقتحم خلوتا، وأحدثها، ولكن.. لا خطوة نحو ذلك.
لحظة.. جاءتني الفرصة، حينما نهضت فجأة من فوق كرسيها، فسقط كوب الماء وانكسر، ثمة هناك شيء ما دفعني بسرعة لمساعدتها، فابتسمت لي شاكرةً مساعدتي لها، وكأن الشمس اشتد نورها نورًا.. لكن الغريب أن الشمس المبتسمة وافقت الجلوس معي، كان ذلك بالنسبة لي خيالًا لا أصدقه، حلم جميل لا أريد الاستيقاظ منه، لا أصدق حقًا أن الهائمة بجمالها، وافقت الجلوس معي.
تعارفنا .. ولفت نظري ابتسامتها المضيئة، وشجعني ذلك على أن أشبع رغبه فضولي واسألها، أراكى دائمًا تجلسين وحيدة، تنظرين إلى شباك المقام، هل تحبين الجلوس وحدك؟..
تبسمت ابتسامه عريضة.. وقالت: “دائمًا لا أجلس وحدي.. دائمًا مع صحبة”، فتعجبت لذلك، كيف ودائمًا أراها وحدها، فتابعت: هذا ما يبدو فرؤية العين لا ترى إلا المحدود، إنما برؤية القلب، فأنا أجلس دائمًا مع أحبابي”.
زاد استغرابي وشغفي لأعرف منها كل شيء، وسألتها: أرجوكي كيف ترى ما لا يراه غيرك؟.
تنهدت ذات الجمال، وقالت: إذا ارتوت الروح بالحب، فسوف ترى أن المحبين لا يموتون أبدًا، سترى عالم آخر لا يطأه إلا أهل الحسن.
تعجبت.. ومن أهل الحُسن إذاً؟.
ردت وعيناها سابحة في أمواج السماء، “هؤلاء من تلمَّسوا خطوات أهل الحب، وعاشوا أرواح تتلمس القرب، وكلما اشتاقت أرواحهم طرقوا الباب إذنًا بالدخول، منهم من يذوب عندما يرى الباب، ومنهم من يمشي خجلًا واقفًا حتى يفتح الباب، ومنهم من يأتي فرحًا فيدخل من أوسع الأبواب، فليس المهم الوصول وإنما كيف يكون”.
فضحكت وكأنى افهم ما تقول، وسألتها، وأنتِ؟، أراكي تنظري من بعيدـ حتى لم تسعِ نحو الباب، فتبسمت ولمعت عينيها وقالت: “ومنهم من يأتي إليهم من كل الأبواب دون تعب الوصول…”.