عرضت الباحثة المتخصصة في الشئون الإفريقية إيمان الشعراوي من خلال ورقة بحث دراسية عبر المركز المصري للدراسات الاستراتيجية وتنمية القيم الوطنية، أثر إرساء القواعد العسكرية في إفريقيا على الأمن القومي المصري، مؤكدة أن منطقة القرن الإفريقي شهدت عبر التاريخ تنافسًا بين القوى الكبرى، وذلك بسبب الموقع الاستراتيجي لهذه المنطقة الواقعة على السواحل الشرقية من القارة السمراء والذي جعلها متحكمة في عنق الطريق التجاري الدولي الطويل الذي يربط بين الشرق والغرب عبر البحر الأحمر.
الموقع الجغرافي لمنطقة القرن الإفريقي
قدمت الباحثة إيمان الشعراوي من خلال المركز المصري للدراسات الاستراتيجية وتنمية القيم الوطنية، شرحًا تفصيليًا حول ذلك من خلال ورقة البحث قائلة: إن منطقة القرن الإفريقي تطل على خليج عدن وتشرف على باب المندب، ومقابلة لآبار النفط في شبه الجزيرة العربية والخليج العربي وملاصقة لإقليم البحيرات العظمى في وسط إفريقيا، الذي يتميز بغنى موارده المائية والنفطية والمعدنية، ولهذا كانت المنطقة محل للتنافس الاستعماري الذي عمل على تأجيج الصراعات بداخلها خدمةً لمصالحه.
وتقع منطقة القرن الإفريقي في المنطقة الواقعة على رأس مضيق باب المندب من الساحل الإفريقي، وهى التي يحدها المحيط الهندي جنوبا، والبحر الأحمر شمالا، وتضم: أرتيريا، جيبوتي، الصومال، أثيوبيا، ويدخل فيها بعض الجغرافيين السودان وكينيا، كما يعرف القرن الأفريقي أنه الدول الأعضاء في الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيجاد): جيبوتى، إريتريا، إثيوبيا، كينيا، الصومال، جنوب السودان، السودان، وأوغندا، وتشكل القواعد العسكرية عنصرًا تجاريًّا ودبلوماسيًّا للدول الذى تستضيف هذه القواعد، كما أن هناك سوقًا تنافسية لإقامة قواعد عسكرية بشكل دائم، وكثيرًا ما تتنافس الدول الأقل تطورًا فيما بينها لجذب القوات العسكرية الأجنبية والتي تبحث، في المقابل، عن أفضل العروض التجارية لتطوير أنشطتها.
محاولات القوى الدولية لترسيخ نفوذها منطقة القرن الإفريقي
قالت الباحثة إيمان الشعراوي إن هناك محاولات كثيرة من القوى الدولية لترسيخ نفوذها في القرن الإفريقي من خلال التسابق لبناء القواعد العسكرية على السواحل الأفريقية، بالشكل الذي اقتربت فيه عدد القواعد العسكرية في القرن الإفريقي إلى 17 قاعدة وأصبح القرن الإفريقي من أكثر مناطق العالم احتواءً للقواعد العسكرية (فرنسية، أمريكية، ألمانية، إيطالية، يابانية، صينية، تركية، وإماراتية).
جيبوتي تتصدر العالم بـ 9 قواعد عسكرية أجنبية
تقول الباحثة إيمان الشعراوي إنه على الرغم من أن دولة جيبوتي ثالث أصغر دولة أفريقية بمساحة لا تتجاوز 23 ألف كيلومتر مربع، إلا أنها تحتوي على موقع استراتيجي متميز مطل على البحر الأحمر، جعلها تتحكم في عمليات المرور المرتبطة بحركة الملاحة الدولية عبر مضيق باب المندب وخليج عدن، حيث يعبر حوالي 9% من الحركة البحرية العالمية، و25 ألف ناقلة نفط وأكثر من 6 آلاف ناقلة حاويات سنويًّا.
وأوضحت أن جيبوتي تُشكّل مرصدًا مثاليًا للمراقبة والوصول إلى الشرق الأوسط وشرق أفريقيا وآسيا الوسطى، مما جعلها تحتوى على أكبر عدد للقواعد العسكرية في العالم بعدد 9 قواعد عسكرية عاملة، تضم 6 قواعد للولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، والصين، واليابان، وإيطاليا، وإسبانيا، إضافة إلى 3 قواعد فرنسية، بينها قاعدة بحرية، ومطاران، أحدهما في منطقة ساحلية، وقواعد أخرى تحت الإنشاء .
أهمية القواعد العسكرية الأجنبية في جيبوتي
أكدت الشعراوي أن هذه القواعد العسكرية الأجنبية لها أهميتها الكبرى في جيبوتي لأنها تشكل مصدر دخل مباشر حيث تؤجر الدولة بأسعار متفاوتة الأراضي لإقامة القواعد العسكرية فبينما بلغت الإيرادات السنوية للقاعدة العسكرية اليابانية حوالى 3 مليارات يورو، إلا أنَّ إيرادات نظيرتها الصينية بحوالي 17مليون يورو فحسب، والإيطالية بحوالي 22مليون يورو، و30 مليون يورو للقاعدة الفرنسية، و 56مليون يورو، الضعف تقريبًا، للقاعدة الأمريكية في حين أن المملكة العربية السعودية ستدفع ما لا يقل عن 125 مليون يورو مقابل إنشاء قاعدتها العسكرية.
تنافس أمريكي صيني
أوضحت الباحثة المتخصصة في الشئون الإفريقية أنه بالرغم من تعدد مصالح هذه القوى الدولية إلا أن التنافس الأمريكي الصيني يبقى هو العلامة الأبرز في الصراع على أرض جيبوتي، ففي حين أنها المقر الرئيسي للقيادة الأمريكية الإفريقية (أفريكوم)، فإنها تضم القاعدة العسكرية الدائمة الوحيدة للصين خارج أراضيها، على بعد سبعة كيلومترات فقط من القاعدة العسكرية الأمريكية، والتي تعتبر أوّل قاعدة عسكرية للصين عبر البحار، عند مدخل البحر الأحمر، وذلك على خلاف مبادئ السياسة الخارجية الصينية، التي طالما اعتمدت استراتيجية “الشراكة التنموية”، و”عدم عسكرة السياسة الخارجية”، بناءً على فلسفة العقيدة القتالية للجيش الصيني القائمة على أساس دفاعي، وعدم الانتشار العسكري حول العالم.
وبينت أن ذلك يشير إلى انتقال المنافسة التقليدية بين واشنطن وبكين إلى أرض جيبوتي، خاصة مع الرغبة الصينية في تنفيذ طريق الحرير وتأمين مواردها النفطية وتسهيل مهام قوات حفظ السلام الصيني، ومثال على التنافس الصيني الأمريكي في جيبوتي في 2018 أرسل البنتاغون شكوى رسمية إلى بكين تستنكر إصابة طيارين أمريكيين بجروح طفيفة نتيجة استهداف القاعدة العسكرية الصينية بجيبوتي لطائراتهما بأشعة الليزر، وقتها ردت الصين بأن الطائرات الأمريكية تقوم بمهام تجسس على المنشأة الصينية.
مساعي المملكة العربية السعودية لإنشاء قاعدة عسكرية دائمة في جيبوتي
أشارت إيمان الشعراوي إلى أنه هناك مساعٍ من قبل المملكة العربية السعودية لإنشاء قاعدة عسكرية دائمة في جيبوتي في إطار التعاون الاستراتيجي الذي تم الاتفاق عليه، والمتعلق باتفاقية التعاون في المجال الأمني بين دولة جيبوتي والمملكة العربية السعودية والموقَّعة فى17مايو 2016م، إلا أنه إلى الان لم يتم تدشين هذه القاعدة، وتسعى السعودية من خلال هذه القاعدة إلى مواجهة القرصنة ومكافحة الإرهاب وحماية تجارة النفط ومراقبة تزويد إيران الحوثيين بالأسلحة عبر خليج عدن.
القاعدة العسكرية التركية بالصومال بوابة الأناضول لإفريقيا
أكدت الباحثة إيمان الشعراوي أن الصومال تعتبر منطقة استراتيجية في القارة الأفريقية، فهي تمثّل القرن الإفريقي، وتطل على خليج عدن الاستراتيجي، أهم طرق المواصلات البحرية في المنطقة، والمعبر الأهم لمرور ناقلات النفط من الخليج العربي، وحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، يوجد في الصومال 5 قواعد عسكرية أجنبية عاملة، تشمل قاعدة عسكرية للإمارات العربية المتحدة في مدينة بوساسو الصومالية، وقاعدة أخرى في مدينة بربرة بإقليم «أرض الصومال»، يضاف إلى ذلك قاعدة تركية في مقديشو، وقاعدة «باليدوجل» الجوية الأمريكية في محافظة شبيلي السفي، والقاعدة البريطانية في منطقة بيدوا.
وقالت إن القاعدة العسكرية التركية التي تم افتتاحها عام 2017 تُعد الأهم في الصومال وأكبر قاعدة عسكرية تركية في العالم، وعلى الرغم من أن تركيا أعلنت أن الهدف من إنشاء القاعدة هو تدريب الصوماليين ليشكلوا نواة للقوات الصومالية مستقبلًا، إلا أن هذه القاعدة كان ورائها العديد من الأهداف الأخرى، أهمها السيطرة على القرن الإفريقي وممر البحر الأحمر التجاري، ومضيق باب المندب، كونه المعبر البحري الرئيسي لتجارة النفط العالمية، وما يمثله من خطورة لأمن الخليج، كما أن الأتراك حرصوا أن تكون المباني في القاعدة نسخةً من قصر توبكابي وقصر الرئاسة التركي الجديد، وليس على أي طراز بناء إفريقي، كما أن المتدربين الصوماليين يتدربون في صفوف الكلية باللغة التركية ويتعلمون التاريخ والثقافة التركية وهو ما يشير إلى الرغبة في التغلغل التركي وإعادة العثمانية الجديدة لأفريقيا من خلال الصومال.
الإمارات تضع قدمها على أرض الصومال في بربرة
أشارت إيمان الشعراوي إلى أنه في أرض الصومال، المطلة على خليج عدن، التي أعلنت الانفصال عن الصومال عقب الإطاحة محمد سياد بري عام 1991، ورغم أنه لا توجد دولة تعترف بأرض الصومال إلا أن الإمارات توصلت مع أرض الصومال لاتفاق لإنشاء قاعدة عسكرية إماراتية في مدينة بربرة في عام 2017 والتي تعد أكبر وأهم مدن إقليم أرض الصومال، إلا رئيس أرض الصومال أعلن في سبتمبر 2019 أن الإمارات تخلت عن خططها لإقامة مطار عسكري في المنطقة وأن المنشأة التي تبنى الآن ستتحول إلى مطار مدنى، ويشير البعض إلى أن هذه الخطوة أتت في إطار انسحاب القوات الإمارتية من حرب اليمن.
لمواجهة شباب المجاهدين.. قاعدة سرية إسرائيلية في إريتريا واثنين في كينيا
تقول الباحثة إيمان الشعراوي إنه منذ عام 2016 أنشأت “إسرائيل” سراً قاعدة استخبارات إلكترونية متقدمة في إريتريا لمراقبة مضيق باب المندب الاستراتيجي، الذى تنتقل عبره معظم شحنات النفط الخليجية في طريقها إلى العملاء في جميع أنحاء العالم، القاعدة الواقعة على أعلى جبل في البلاد، إمبا سويرا، خارج العاصمة أسمرة، تراقب أنشطة حركة “أنصار الله” في اليمن التي تقاتل ضد الإمارات والسعودية، وهى وسيلة لضمان ألا تهدد مصر أبداً المصالح الإسرائيلية في الجزء الجنوبي من البحر الأحمر، وخاصة حركة ملاحتها، كما تعمل كقاعدة أمامية لمراقبة الشحن الإيراني، وجهود إيران لاختراق إريتريا بعد طردها من السودان بعد الإطاحة بعمر البشير.
وأضافت: أما الإمارات فقد استثمرت ملايين الدولارات في تطوير ميناء وتوسيع مهبط للطائرات وإقامة بنى تحتية أخرى في القاعدة التي أنشأها المستعمرون الإيطاليون في ثلاثينيات القرن الماضي في مدينة عصب الإريترية المطلة على البحر الأحمر، واستخدمت هذا الموقع منذ سبتمبر 2015 كقاعدة لنقل أسلحة ثقيلة وقوات إلى اليمن وقد نشرت الإمارات في هذه القاعدة سابقا آليات قتالية مختلفة، منها دبابات من طراز “لوكلير” ومدافع ذاتية الدفع من طراز “هاوتزر جى 6” ومدرعات قتالية من طراز “بي إم بى-3″، كما تم رصد مروحيات هجومية وطائرات مسيرة وغيرها من أنواع الطيران الحربى فى القاعدة، إلا أنه بعد سحب قواتها من اليمن في 2019، شرعت في إخراج المعدات من القاعدة وحتى تفكيك منشآت مقامة حديثا..
ولفتت إلى أنه في كينيا يوجد بها قاعدتين عسكريتين، إحداهما أمريكية فى “خليج ماندا”، والأخرى بريطانيا فى مدينة نانيوكي، ويطلق على القاعدة الأمريكية اسم سيمبا وتضم عناصر من المظليين فى الجيش الامريكى وتساهم القاعدة فى محاربة حركة شباب المجاهدين ، وتسعى الولايات المتحدة الامريكية إلى توسيع صلاحيات هذه القاعدة وذلك بسبب الهجوم المتكرر الذى تتعرض له من حركة شباب المجاهدين ومنها ما حدث فى يناير 2020 من إستهدافها من قبل شباب المجاهدين وأسفر الهجوم على مطار ماندا باى عن مقتل ثلاثة أمريكيين وتسبب فى أضرار بملايين الدولارات.
روسيا في السودان
أكدت الباحثة إيمان الشعراوي في بحثها أنه بعد سقوط عمر البشير أعلنت قيادة القوات المسلحة السودانية عزمها مراجعة الاتفاق مع روسيا بشأن إنشاء هذه القاعدة، وعلى الرغم من نفى رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إقدام الخرطوم على إلغاء قاعدة البحرية الروسية في البحر الأحمر، أو وجود ضغوط أمريكية بهذا الصدد، إلا أن كل المؤشرات تشير إلى أن الموقف السوداني كان بضغط أمريكي، خاصة عقب إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وعبر منصة المركز المصري للدراسات الاستراتيجية، قالت الشعراوي إن إعلان الولايات المتحدة الأميركية رغبتها في إقامة تعاون عسكري وثيق مع السودان، يشير إلى تحرك أمريكي مكافئ للتحرك الروسي، وصراع بين العملاقين على مناطق النفوذ في منطقة البحر الأحمر الاستراتيجية وتتطلع روسيا لإقامة هذه القاعدة البحرية لتوسيع نفوذها في شمال شرقي أفريقيا، وعلى طول المنطقة الحيوية على البحر الأحمر ومنطقة باب المندب، بما يوصلها لمناطق الثروات الطبيعة والأسواق المحتملة للأسلحة الروسية فضلًا عن تهديد النفوذ الأمريكي في منطقة القرن الإفريقي.
أثر إرساء قواعد عسكرية في منطقة القرن الإفريقي على الأمن القومي المصري
أكدت الباحثة إيمان الشعراوي من خلال ورقة بحثها المعروضة على المركز المصري للدراسات الاستراتيجية أن مصر تدرك تنامي التحديات الأمنية في البحر الأحمر والقرن الإفريقي وهو ما ظهر من امتلاكها أكبر القواعد العسكرية المطلة على البحر الأحمر، في برنيس جنوب شرق البلاد التي تم افتتاحها في يناير 2020 وهو ما يعكس حرص الدولة المصرية على ضرورة توافر القدرة لديها على التدخل السريع لتأمين الملاحة العابرة فى حال تهديدها، خاصة مع ارتباط تلك الملاحة مباشرة بقناة السويس، أحد مصادر الدخل الرئيسية للدولة المصرية.
وأوضحت أن وجود عدد كبير من القواعد العسكرية للقوى الدولية في منطقة القرن الإفريقي له تداعياتٌ سلبية على الأمن القومي المصري، مشيرة إلى أن التنافس الدولي والإقليمي على بناء القواعد العسكرية في منطقة القرن الإفريقي يجعل غالبية تلك القوى تسعى للسيطرة على البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وبالتالي السيطرة على حركة التجارة الدولية، الأمر الذى سيكون له تأثيرٌ سلبى على الملاحة في قناة السويس التي تعد واحدة من المصادر الرئيسة للدخل القومي المصري، فضلًا عن مواقف معظم هذه القوى من دعم إثيوبيا بشكل غير مباشر، في أزمتها في سد النهضة مع مصر والسودان في جلسة مجلس الأمن وحربها ضد التيجراي، يؤكد أن هذه القواعد العسكرية قد يكون لها دور في مساعدة الدولة الإثيوبية وتقديم الدعم العسكري لها ، فضلا عن إمكانية مد إثيوبيا بالأسلحة والمعدات اللازمة للإضرار بالسودان وزعزعة الاستقرار السياسي داخلها.
وأردفت: القوى الدولية في القرن الإفريقي متعارضة المصالح والتوجهات وهو ما سيجعل كل قوة تحاول الحصول على دعم وتأييد باقي دول المنطقة، وهو ما سيترتب عليه وجود تداعيات خطيرة على قدرات دول منطقة القرن الإفريقي الاقتصادية والعسكرية، وبالتالي التأثير بشكل مباشر على الأمن القومي المصري، واستمرار النفوذ الدولي في منطقة القرن الإفريقي يتيح سيطرة القوة الدولية على الموارد الطبيعية والخيرات التي تتمتع بها هذه المنطقة ويعيق حلم التكامل الاقتصادي الذي تسعى الدولة المصرية لتحقيقه.
وتوقعت أن تزيد عدد القواعد العسكرية في القرن الإفريقي الفترة المقبلة، وذلك بسبب التكالب الدولي على هذه المنطقة للاستفادة من موقعها الجغرافي، وهو ما يؤكد حتمية تعزيز التواجد المصري في منطقة القرن الإفريقي التي تعتبر امتداد للأمن القومي لمصر، وبما يسمح بإعادة التوازنات الإقليمية وموازين القوى في المنطقة لصالحها.