بعيون يملأها الإحباط واليأس جلست في المقعد الأمامي لمكتبه، سحب سيجارة من علبتها البيضاء، وذهب إصبعه إلى الجرس، جاء أحدهم فطلبت كوب الشاي الساخن، وبابتسامته التي لا تفارق وجهه كلما قابلته حتى وهو في أحلك مواقفه، نظر لي، واسترسل الحديث وحده.
ذهب الاثنان الجالسان معنا، وأصبحنا وحدنا.. في ضوء الغرفة الهادئة في الناحية النائية من القصر، وبصوت الملوك البسيط كان سؤاله عن أحوالي، وبصوت منكسر كانت إجابتي، “مش كويس والله يا ريس”، رده جاء سريعًا: “احكيلي”، وبدأت الكلمات تجري من على لساني عن سوء الأوضاع نفسيًا وماديًا وسياسيًا والأجواء المحيطة المشحونة بالبغض والكره وحالة الإحباط واليأس التي أصابتني وربما أصابت جيلي كاملًا.
لم يقاطعني “البرنس” حفيد مصطفى باشا النحاس، وانتظر رغم مشاغله ورأسه المدوشة بما هو أهم، وهي شيم القيادات العظيمة الموروثة في حياة الأمراء والملوك، ليت من يريدون القيادة يتعلمون.
المهم.. انقطع حديثي فجأة، نظر إليه ونفخ دخان السيجارة إلى أعلى، وسألني: “خلصت كلام؟!”، أجابته: نعم، بإصبعه وبنظرة ذكرتني بنظرة أبي لي حين كان يعاتبني أو ينصحني، وسألني: عند كام سنة؟، فأجابته: ماشي في الـ 28 ياريس، ومن هنا انطلقت رصاصات لسانه إلى صدري: 28 سنة وإنت تحمل صفات كريمة، 28 سنة وإنت بتقدر تكتب وتقول أفكار وتشتغل، 28 سنة وبتقابل شخصيات مهمة وتعمل علاقات، 28 سنة وإيدك بتصافح أيادي عظماء، 28 سنة وعارف تاريخ ونسل ليك ولناس تانية من الشرفاء وتعرف رؤساء وتعرف وتعرف وتعرف، 28 سنة يا محمد وفي سنك لسه شباب وأكبر منك لما بيشوفوا عربية بوكس ولا ظابط بيجروا وخايفين، 28 سنة فيهم حاجات كتيرة حلوة، وحاجات لسه ما جاش وقتها.
سؤال آخر: إيه الفرق بين الناجح والفاشل والإحباط واليأس؟، اليأس فشل ياريس، والناجح ناجح بعوامل، سؤال: إيه عوامل النجاح؟، ج: الإرادة والإصرار والصبر، مقاطعًا: فيه أهم، ج: مش عارف ياريس؟، رد: الزمن يا محمد أهم درس اسمه الزمن، الزمن إنك لما تقع تبقى عارف إنك هتقوم وتكمل ولسه وقتك ما جاش عشان توصل للحتة دي.
على لسانه: في رواية بيني وبين أحد رؤساء الوفد قديمًا، قام باستبعادي من مسؤول ملف المحافظات ومن مصدري وزارة الثقافة، خرجت وجلست قليلًا في الفندق المجاور للقصر، سألني زملائي وأصدقائي: هتعمل ايه وساكت ليه؟، إجابتي يا محمد كانت: إن الرئيس دا ماشي، وإن الوقت والزمن اللي جاي زمني، وكنت وبقيت نائب رئيس حزب الوفد عبد العزيز النحاس، ممكن يكون متأخر عليك اللي بتحلم بيه، وممكن تحبط، لكن ما تيأسش وتفشل، كمل، كمل وما تسيبش مكانك وفي يوم هتكون، كمل وما تبطلش مذاكرتك ودبلوماتك، كمل واتعلم دا ودا ودا، ومهما طال اللي إنت عاوزه جاي جاي بإرادة ربنا وبإصرارك وعزيمتك ومع إيه يا محمد مع “الزمن”.
الدرس التاني يا محمد إن مفيش مكان ومفيش حاجه في الدنيا مفيهاش مشاكل وصراعات ووشايات وإرشاد ومخبرين، كل مكان فيه وفيه ويمكن الأسوأ، امشي زي السيف وما تخافش.. ولينا قاعدة تانية.
شكرًا البرنس عبد العزيز باشا النحاس نائب رئيس حزب الوفد وعضو مجلس الشيوخ، شكرًا الأب والأخ الذي أعرفه منذ أن أبصرت عيناي الراية الخضراء ذات الهلال والصليب وشعار الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة منذ أن كنت في العاشرة من عمري وأزور القصر مع أبي الذي علّمني عشق البرنس، فقد كان على حق دومًا.. الآن أنا على موعد مع انطلاق سهم جديد نحو المستقبل برفقة درس الزمن من فم النحاس البرنس.