ليس في وسع كل إنسانٍ أن يصيرَ أسطورة تُحكى، فالأسطورة دائما تتجلي بتجلّي صفةٍ بشكل غير مسبُوق، أو باستخدام وسيلةٍ لنَيلِ المراد بطريقةٍ فريدة ، قد يكون الحُب الأفلاطوني ، قد يكون السلام ، قد تكون المهارة الفريدةُ في أمرٍ ما أو في صنعةٍ ما ، قد تكون البطولة في حربٍ ، قد تكون القوة، و قد تكون التضحية.
و لكن .. ماذا إن كانت دائمًا شريطة تحوّل المَرءِ إلى أسطورة أن يكون سجينًا؟
تحكي الميثولوجيا اليونانية عن نرسيس أو نركسوس الصياد فائق الجمال، الذي وقع في حب نفسه من شدة جماله، وجعله جماله و غروره أن يتجاهل كل الناس ولا يتحاب مع أحد، ولا يقيم أي وزن للعاطفة نحو الناسِ بذكورهم و إناثهم، رغم إفتتان كل من رآه به.
ظل نرسيس يصيد، يصيد الفرائس و يصيد القلوب، ظل عاشقًا لنفسه و لجماله بل و يزداد حبًا لنفسه يومًا بعد يوم، إلي أن قابل إيكو في ليلةٍ من ليال الصيد. إيكو فائقة الحسن حُلوة الحديث والتي منحتها الآلهة من فنون القَصِّ ما يُسحر المستمع و يُلهيه، إيكو التي عشقت نرسيس عشقا جما، لكنها كانت تعرف غروره و تخاف منه مما منعها طوال حياتها من إظهار حبها له أو حتى لفت إنتباهه إليه.
و في ليلة خرج نرسيس للصيد بين المروج مع أصدقائه فتاه منهم وهو يطارد فريسته، فانتظر مجيئهم إليه لكن أحدا لم يحضر، فظل يبحث عنهم إلي أن اكتشف أنه ضل الطريق، فجلس يستريح علي حافة غدير، و هناك خلف الأشجار كانت عيونٌ تراقبه، كانت عيون إيكو وقلبها الذي يخفق بشدة، وروحها التي ترفرف حول روح نرسيس.
كانت إيكو تراقب نرسيس في لهفة، كانت تشبع عينيها منه و من جماله، و كانت الرغبة داخلها في أن تهبط إليه و ترتمي بين أحضانه قاتلة، و الصراع بين كبريائها و بين حبها له كان علي أشده، إلى أن نفذ صبرها و خانت كبريائها و ذهبت إليه، واقتربت منه و هي فاتحة ذراعيها و ترغب في ضمه بين أحضانها، فوجدت نرسيس ينظر إليها نظرة غرور وهو يقول: لا أريدك .. لا أرغب في تقبيلك.. أموت قبل أن أشتاق إلي أحضانك. ثم أعرض عنها و ابتعد عن طريقها.
سُجنت إيكو في حُب نرسيس، فسجنها نرسيس في سجن الحُزن و الخذلان، أصبحت إيكو الجميلة إيكو المُحطمة، ذبل جمالها و ماتت قصصها التي ترويها، و تحولت إيكو إلي صدى من الصوت الحزين، و هناك في السماء كانت أفروديت إلهة الحُب و الجمال تشاهد تحطم إيكو بمطرقة غرور نرسيس، أفروديت التي لا تتخلى أبدًا عن المجروحين ولا تسامح محطِمي القلوب، والتي نادت علي إيكو ووعدتها بالانتقام.
و ذات يوم خرج نرسيس للصيد كعادته، و أخذ يطارد فرائسه تحت آشعة الشمس الحارقة، إلى أن أحس بالعطش و التعب، فبحث عن غدير إلى أن وجد منطقة ظليلة يتوسطها غدير، ذهب إليه و مال بوجهه و شرب ثم نظر إلى صفحة الماء الشديدة الصفاء، فرأى وجها جميلا لم ير مثله من قبل، فتسمّر نرسيس مكانه و طال نظره إلى هذا الوجه الجميل. لاحظ نرسيس أن الوجه ينظر إليه و يقوم بنفس حركاته و يبتسم له حينما يبتسم، ويلوح له بيده حينما يلوح هو الآخر.
وقع في نفس نرسيس أن حورية ماورائية أحبته، و أحبها هو من أول نظرةٍ إليها، فظل يذهب إلى الغدير كل يوم يحملق في جمال عيونها و بديع وجهها، كانت تحرك قلبه حركاتها و ابتساماتها المماثلة لحركاته و ابتساماته، إلى أن رغب نرسيس في أن يمسك يدها فمد يده في الماء ليمسك بها فاهتزت صفحة الماء و ذهب وجهها، أخذ يعيد المحاولة ولكن دون جدوى، فأصيب بالحزن و قال لنفسه: أحببت حورية لم تحبني..أصبحت عاشقًا منبوذا. لكن نرسيس لم يغادر الغدير وقضى عمره يحملق في الماء، في وجه حبيبته الماورائية، قضى عمره ينظر إلى نفسه ظنًا منه أنها حورية أحبها و لم تحبه، إلى أن فارق الحياة و هو يردد: وداعًا .. وداعًا .. يا من أحب .. وداعاً.
نعم .. سَجنت أفروديت نرسيس في سجن قاس انتقاما لإيكو، سجن بالغ القسوة غير مسبوق، يا لقساوة أن تحب نفسك ظنًا منك أنها حورية، ظنًا منك أنها شخصًا آخر، شخصًا لا يبادلك المحبة، و يا لقساوة ذلك أيضًا. سُجن نرسيس في حب نفسه فأصبح أسطورة لحب الذات، أسطورة للنرجسية، و نمطا من أنماط البشر، و مثالا يضربه الحكماء و يستخدمه علماء النفس كلما كان الحديث عن الغرور.
أما حديثى فلم يكن عن الغرور أكثر ما كان عن السَجن، السجن الذي يحوّلك إلى أسطورة، أن تسجن نفسك في فكرة تستحوذ عقلك فتسجنك فيها فتصبح أسطورتها، أن تسجنك دوافعك في سجن التطور والمضي قدما، أن تكون سجين هدفٍ نبيل علي أن تكون حُرًا بلا هدف، أن تضع نصب أعينك ما تريد أن تحققه فتصبح سجينه فلا ترى غيره، أن يسجنك قلبك في الحب و يسجنك عقلك في الفكر و تسجنك روحك في الطوق و الاشتياق فتصبح إنسانا، على أن تكون حرًا جافًا جاهلًا بلا معنى، فاختر سجنك بعناية فائقة، لأن سجنك سيكون أسطورتك، لأن سجنك سيكون أنت.