أكثر من مائة عام مرت على عيد الجهاد الوطني، وهو عيد كانت مصر تحتفل به منذ سنة 1922 أي منذ أن نالت استقلالها إلى سنة 1952 ، وكان يعتبر يوما قوميا في عهد المملكة المصرية، ويقترن هذا العيد باسم الزعيم سعد زغلول، وكان الشعب المصري، يتوجه في هذا اليوم بكل طوائفه إلى ضريح سعد زغلول، حيث يخطب فيه الزعماء ويضعون الزهور ترحما عليه.
لم تكن 1919 البداية إطلاقًا، لكن الشرارة بدأت في 1918، بعدما اشتدت ممارسات التضيق التي تمارسها بريطانيا في حق الحركات السياسية المصرية، وكان أبرزها الحزب الوطني، الذي أسسه الزعيم الراحل مصطفى كامل، وعاقبت رموزه بالنفي أو الاعتقال، لكن هذا لم يمنع من تصاعد حركات سياسية أخرى تطالب إسقاط الحماية البريطانية عن مصر.
وفي عام 1918 شكل سعد زعلول بمشاركة عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي، وفدا مصريا يسعى بشكل سلمي لاستقلال مصر عن بريطانيا، وكان على هذا الوفد أن يشارك في مؤتمر باريس للسلام لعرض القضية المصرية، لكن القدر لم يمهلهم حتى يتموا هذه المهمة، فقد اعتقلت بريطانيا سعد ورفاقه ونفتهم إلى جزيرة مالطا.
لم يكن هذا التشكيل في نيته القيام بالثورة أبدًا، ولم يكن يُخطط لذلك على الإطلاق، بقدر ما كان يهدف للضغط على بريطانيا دوليا وداخليا للحصول على الاستقلال، لكن اعتقال الوفد المصري بهذا الشكل سبب في غضب كبير من الحركات السياسية، كان على رأسهم الحركة الطلابية التي قررت القيام بأول رد فعل عملي.
لكن قبله كان للشباب المصري من خلال الجامعات دور فعال وبارز وقوي في مواجهة هذا البطش العدواني للمحتل والانبطاح من السلطة والقيادة الحاكمة التي لم تكن لتتحرك أبدًا لو حتى بالتنديد، بالعكس كانت تحاول أن تنال الرضا من الحماية البريطانية، فكان اتفاق الطلبة في مدرسة الحقوق في فبراير عام 1915 على عدم الحضور عندما قرر السلطان حسين كامل زيارة المدرسة في هذا اليوم، وعندما وصل السلطان وجد المدرسة شبه فارغة؛ فكان هذا الإضراب أشبه بمظاهرة صامتة ضد الحماية البريطانية.. ولم يمر الأمر بسلام وتم التحقيق وعوقب هؤلاء الطلبة بالفصل أو الامتناع عن الامتحان.
ويوم الأحد الموافق 9 مارس 1919 حدثت موقف مشابه لم يكن يعلم أحد أنه سينتهي بثورة، ففي في صباح الأحد امتنع طلبة مدرسة الحقوق عن حضور محاضراتهم، واجتمعوا في الفناء معلنين الإضراب، هاتفين بإسقاط الاستعمار وبحياة سعد زغلول الذي اعتقلته القوات البريطانية، ثم خرج الطلاب في مسيرة سلمية لمدرسة المهندسخانة ثم مدرسة الزراعة بالجيزة ثم انضمت لهم مدرسة الطب بقصر العيني ثم مدرسة التجارة حتى وصلوا إلى حي السيدة زينب؛ فأحاطهم البوليس الإنجليزي واعتقل بعضهم.
وعلى الرغم من أن هذه المظاهرات كانت سلمية، لكن قوتها أربكت المُحتل، فيقول الرافعي أن حصان أحد الجنود الإنجليز داس قدم أحد الطلاب، الذي طلب من الجندي الانتباه فما كان منه إلا أن ضربه، ومن هنا اندلعت مشاجرة بين المتظاهرين والضباط وتدخل العامة الذين انهالوا بالضرب بالحجارة على الجندي الإنجليزي، وانتهى اليوم الأول من المظاهرات باعتقال 300 طالب بعد أن فرق الجنود الإنجليز الطلبة بالعصي، وأخلوا ميدان باب الخلق.
في اليوم التالي كان طلبة المدارس الأخرى وطلبة الأزهر قد علموا بالأمر، وقرروا المشاركة في الإضراب، وانضم إليهم في المسيرة كل من قابلهم في الطريق من العامة؛ وهتف الجميع بسقوط الحماية البريطانية، واستمرت مظاهرات الطلبة لأيام متتالية حدثت فيه بعض الاعتداءات على المحلات الأجنبية وحدث اعتداء على «الترام» وتحطيم للمصابيح واقتلاع الأشجار.
الحقيقة.. أن الشباب كان ذروة الاتصال بين الأجيال السياسية في ثورة 1919 فقد كان يستمع ويتصل بجيل الشيوخ والوسط من دون أي حساسية، ولم تمثل الثورة ظاهرة للانقطاع الجيلي فقد كانت لحظة حادة جدًا من تداخل الوطنية المصرية، حتى أن جميع القوى كانت تحاول أن تستأثر بهذا الجيل، في محاولة للاستئثار بهذه القوى العظمى وبسط النفوذ عليها في ظل الخلافات الواقعة بين الملك والوفد، فضلًا عن أنها كانت تتمتع بكونها حاضنة مُفرزة متطورة.. فسيظل الشباب هم عماد الجهاد الوطني وقوة حاضره ونواة مستقبله.