نودي لصلاة الجمعة، صعد الإمام المنبر، ورد المصلون ظهورهم إلى الحائط، واعتدل الآخرون في جلستهم، وأعاروه انتباههم، وبدأوا يستمعون له باهتمام شديد، وآخرون تأخذهم غفلة من النوم، وكنت واحدا من المهتمين بالحديث، لعلني أجد في أئمة البلدة فصاحة وطلاقة وعلما أكثر من تلك التي في المدينة والعاصمة الكبرى، ولربما هو الإحساس الكاذب لارتباطي العاطفي بالبلدة.
سرد الخطيب خطبته، وراح يتحدث عن القرآن الكريم، كيف جُمع؟، وكيف حُفظ؟، قصص وحكايات وتآويل، وفضائل تشرح القلب.
الحقيقة أن الحديث كان ممتعا، خاصة وأن الحبيب المصطفى كان أحد أبطالها الذين نزل عليهم الوحي وأمر بكتابته فكانت الكتابة على العظام وجذوع الشجر وسعف النخل وأوراق الأشجار، وكانت توجيهات النبي بترتيب الآيات والسور، وكانت اللهجات والمصاحف حتى جاء عهد الصحابي الجليل عثمان بن عفان الذي وجد ٧ مصاحف تتلي بلهجات مختلفة، فأخد واحد ودفت الباقي جوار منزله، وأمر الصحابي الدؤلي بوضع علامات وتشكيل الكلمات حتى ينطق صحيحا دون خطأ في النطق والمعنى.
حتى هنا كان الحديث أكثر من ممتع، حتى تلي الإمام قول الله تعالى: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”، وحكي قصة عجيبة بأن في عهد الملك وحتى يُحفظ القرآن كان الأمر بأن من يحفظ القرآن كاملا يُعفي من آداء الخدمة العسكرية والتجنيد في الجيش.
الإمام أولا لم يُسم الملك الذي فُعل ذلك في عهده، بل وأكمل قصته معللا ذلك بأن السبب هو أن الجيش كان يرى في حافظ القرآن خطرا يهدد قوة الجيش، إذ لم يستطع أحد السيطرة على حافظ القرآن، ولا فرض المعاملة السيئة كما ادعى هو على حافظ كلمات الله حتى وإن كان غير مسلما، لأنه بذلك لا يقبل الإهانة من سب وشتيمة كما يقول، وكأن الجيش ورجاله هم المفسدون في الأرض أعداء الله والعياذ بالله الذين يشتمون خلق الله.
وقع شيخنا في خطأ شنيع لا أعرف إذا كان يقصده أم لا، نحن ليس منجمون أو سحرة حتى نطلع الغيب، ولسنا أيضا حاكمون أو نحمل صك وطنية، لكن الحقيقة لا نقبل أن يُصور الجيش ورجاله الذين انتصروا في حروب كثيرة آخرها حرب أكتوبر المجيدية ١٩٧٣ والتي كانت في العاشر من رمضان وجنود مصر صائمون حافظون لكتاب الله مرددون “الله أكبر.. الله أكبر”، التي أربكت العدو وأسقطت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر.
شيخنا الجليل العالم، إنك تقف على أطهر أماكن الأرض، تعتلي المنبر مكان رسول الله، تحمل رسالة، وتتحدث لأناس هم أبسط من أن يفكوا طلاسم أو يحلون ألغاز كلمات متقاطعة، لذا كان من الواجب أن يتم التوضيح بأن ليس كل ما يُقال هو ثابت في كل آوان وزمان ومكان، ولا يصلح في أن يكون لكل توقيت، إذا كانت روايتك صحيحة أصلا والتي أشك فيها من الأساس.
إن القرآن وحفظه لم ولن يكون أبدا دليلا على الطاعة وحفظ الكرامة، وارتداء افارول الجيش لا يعني الظلم والبطش، فالجيش رجاله مؤمنون حافظون لكتاب الله، يحملون في يدهم سلاحا ليطبقون أمر الله بالدفاع عن الأرض والعرض وعنك وأنت تقف على المنبر لتعظ فينا.