عندما كتب الأستاذ الكاتب الساخر الكبير (لينين الرملي) قصته الكوميدية “علي بيه مظهر” والتي تحولت إلى فيلم بعنوان “علي بيه مظهر والأربعين حرامي”. ثم لمسرحية فمسلسل تليفزيوني. تلك الشخصية التطلعية الحالمة ، والتي لا تمتلك من إبداع سوى الأحلام الطويلة الوردية ، ومن العزيمة غير القدرة على تحويل تلك الأحلام الجميلة لواقع تمثيلي فقط. يكون هو البطل الراوي ، والكاذب الأوحد! وعموم الناس هم المشاهدين.
عندما كتب أستاذنا ورسم بريشته هذه الشخصية العجيبة ، وشاهدتها مراراً ، طفلاً وشاباً ورجلاً ثم شيخاً هرماً ، كانت نظرتي -لها- تتغير في كل مرحلةٍ عن سابقتها ، ففي الطفولة رأيتُها شخصية مضحكة فقط ، تأتي بأفعال “أرجوزية” تافهة تضحك أمثالي من الأطفال ، وكأن البطل “يدغدغ” ضلوعنا النحيلةَ بأنامله المُدَبّبة فننطرح أرضاً من كثرة الضحك! لا سيما في كل مرة استعمال فيها الممثل الكوميدي “محمد صبحي” -البطل- لسانه وشفتيه ، مع طرق أصبعيه الإبهام والوسطى ، ورفع رزغه إلى مستوى رأسه أو يعلو قليلاً ، مع ترديد: “هوب هوب فوق فوق” بطريقة بهلوانية مضحكة.
ثم تغيرت النظرة قليلاً في مرحلة الشباب ، فكان الفيلم كله بالنسبة لي ، هو مشهد الراقصة “هياتم” وهي تحاول استمالة وإغراء “علي”. بعدما رأى رجال الأعمال النصابين فيه فرصة سانحة للنصب ، من وراء “برفان” شيك أنيق ثرثار! فكنت انتظر هذا المشهد -الفقير- بسذاجة المراهق ، ولهفة من لم يرَ شيئاً بعد.
ثم صرتُ رجلاً ناضجاً بعض الشيئ. فأصبح الفيلم بجموع شخوصه مجرد قصة خيالية لطيفة ، أشاهدها فأخرج في كل مرة بلقطة جديدةٍ لم أكن قد تنبهت لها من قبل ، وأستمتع بعض الشيء بأداء الفنان العبقري “جميل راتب” والرائع المخلص “أحمد راتب” صديق علي الواقعي حتى النخاع ، وأسرح مع هذه التركيبة العجيبة والغير منسجمة ، صداقة ما تنشأ بين حالم حتى أذنيه ، وواقعي حتى مفرق رأسه! شخص جائع يرفض الطعام الرخيص متطلعا لمفاخر الموائد ، والتي لا توجد سوى في مخيلته فقط ، وآخر يأكل ما بين يديه -المش- بنفس راضية رضاء زبائن (الحاتي)! زمالة ما تنشب بين نقيضين لا يلتقيان. ومعادلة تضرب كل قوانين (الفيزياء) على قفاها. فطالب جامعي يحمد الله على الثياب الرثة ، ويرى في نفسه المثال الحي للشاب المكافح الصابر ، وموظف فاشل ، متوسط التعليم ، يقدم نفسه على أنه: “علي بيه مظهر يا أفندم” ، ماجستير تجارة وعضو مجلس إدارة! إدارة ماذا؟ الله وحده يعلم.
ثم شخنا وهرمنا وجرى علينا القلم. ووهن العظم منا واشتعل الرأس شيباً. وأمام سيول الأعمال الفنية الهادرة.. تاه علي مظهر! فلم أعد أشاهده ، بل وأسخر من القنوات التي تفرد له مساحة على خريطتها ، وأيضاً تعلن من خلال فواصله! وفضلت عليه الكثير والكثير من الأفلام الأجنبية والعربية ، ليسقط “مظهر” من عقلي تماماً ، ولا أتذكره إلا من خلال بعض التنويهات التي تُعرض للتنبيه على المشاهد باقتراب موعد عرضه على قناة ما ، فأفضل عدم المشاهدة! وكأن النفس قد ملَّت منه!
ولكن يأبى (علي بيه) التجاهل ، ويغضب مني أيما غضبٍ ، وهذا -والله أعلم- بعدما اعتاد عليَّ كمشاهد ، مثلما اعتدت عليه كشخصية فنية أتابعها ، ولاحظ غيابي عن صفوف مشاهديه مرة وأثنتين وثلاث ، فقرر البحث عني -هو- هذه المرة ، ليجدني بسهولة تفوق سهولة إدراكه عبر الأثير. فجاءني يسعى على قدمين ، بعدما غير اسمه وشكله قليلاً. فجاء أسمر اللون قصير القامة قليلاً عن بطل العمل “صبحي”! يتحدث بلهجة صعيدية مطعمة بشيء يسير من لهجة أهل “البندر”. لكنه ليس قشيباً كالبطل الرئيس ، ولا يهتم لذلك. يحمل بين ضلوعه أحلاماً لا أول لها ولا آخر ، وبين يديه لا شيء. لكنه -والحق يُقال- يمتلك لساناً ساحراً كعصاة (دايفيد كوبرفيلد) أشهر سَحَّار في العالم ، يشير به للبحر الخِضم فيحيله “طحينة” في أقل من ثانية!
وعندما تجتمع الأحلام المستحيلة مع قدرة فائقة على الكلام ، ومركب عدم الرضى عن الذات مع التطلع لمن هم فوقه ، مطعمة بالدونية المطمورة في غياهب النفس في رجلٍ.. يصير مسخرة العالمين! نعم لقد شاهدته وجالسته وطعِمتُ معه ، ودخّنت أيضا معه ، وتبادلت الحديث! وفي كل مرة كنت أتوقع فيها القصة القادمة التي سيرويها لي عن أمجاده ونجاحاته الخرافية ، وهذا ليس راجعاً لقدرتي على قراءة الطالع وكشف المستور ، ولكن لمعرفتي الفائقة بعلي مظهر القديم ، والذي كنت سأقول عنه “الحقيقي” فتراجعت عن المسمى بعدما رأيت الحقيقي ماثلاً أمامي ، يخاطبني ويهاتفني ويضاحكني أحياناً. فصار -عندي بعده- لينين وقصته وصبحي وأداؤه مجرد رشوت ، وظلال على صورة في منتهى الواقعية ، تسبح في قاع الأحلام!
لقد كتب الرملي وشخَّص صبحي وكأن الأول يستنبط المعنى ويفك الطلاسم ، ثم يكلف صبحي والمخرج (أحمد ياسين) ليبرزان تلك الملامح التي نوّه عنها آنفاً ، وأشار إليها بطرفٍ خفي. ليبزُغ -على أيديهم- نجم كاذب ، وتتمحور -من خلالهم- شخصية الشاب الكسول في كل شيء سوى الكذب ، الفاشل في أي شيء غير “المظهر”. الحالم بكل الأشياء عدا النجاح ، المتطلع لكافة شيء إلا المسؤولية! وهنا المفارقة الفنية! أما المفارقة الحقيقية فهي أن يظهر للشخصية الفنية الخيالية -تلك- ظلاً على الأرض. فتحدثني وتلمسني وتسمعني وتسمع مني! لقد ظللت ردحاً من الزمن أشاهد “علي بيه مظهر” فأقهقه من أعماقي ، ثم أضحك من فمي ، ثم أبتسم من شفتي ، ثم تلاشت الصورة من أمامي على التلفاز! لأراها حية تسعى بجواري.. شاباً ثلاثينياً ، هذه هي الحقيقة الوحيدة التي أستطيع نقلها عنه بثقة! أما ما عداها فأظنه كله كذب في كذب ، بدايةً من شهادته بوحدانية الله ورسالة رسوله ، حتى لون بشرته وقَصَّة شعره!
فهل كان كل ذلك توارد أفكار لدى الكاتب والشخصية الحقيقية! والتي أظنها لم تكن قد ولدت بعد إبان الكتابة؟! أم أن عائلة “مظهر” هذه عائلة قديمة الميراث ، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ ، ويتكاثر نسلها تكاثر يأجوج ومأجوج! وأنا الذي كنت لا أعرف عنها شيئاً؟! هنا مكمن السر!
_______________
#MOUSTAFA✍