كثيرًا ما نرى ونسمع أشباه المثقفين يرمون بعضهم بمصطلحٍ فلسفي حولوه بجهلهم إلى ما يُشبه سُبة ، فتراه يرمي من يخالفه الرأي بكلمة (الميكافيلية) أو أنت ميكافيلي! ولو سألته من هو ميكافيلي؟ لما وجد إجابة كافية ، ثم يتيه عُجباً عندما يتصيد إحدى مقولات ميكافيلي وهي (الغاية تبرر الوسيلة)! نعم قالها ميكافيلي قبل خمسة قرون ، لكن الذي جعلتم اسمه سُبةً لم يكن ميكافيلياً بالطريقة التي تصورونه بها على الإطلاق.
اسمه: (نيكولو دي ميكافيلي): فيلسوف إيطالي. ولد في (فلورنسا) عام ١٤٦٩م وتوفي فيها عام ١٥٢٧م ، كان والده من النبلاء (مالكي الأراضي الكبار إبان حكم القياصرة) ، تربى في مرحلة تفسخ النظام الإقطاعي وظهور الحركات الإصلاحية التي جرفته في بادئ الأمر ، لأنها كانت تنادي الشباب الإيطالي للتمسك بـ(الفضيلة) ، ولكنه سرعان ما تجاوز بفكره المتنور مشاريع الإصلاح التجميلية ، وكثّف جهوده للكشف عن خبايا التطور الاجتماعي و(سننه) ، وأسس للمنهج الواقعي المنفصل عن اللاهوت ، والذي أصبح عصب التنظير العلمي للعديد من فلاسفة عصر النهضة مثل فولتير ومونتسكيو وجون لوك وجان جاك روسو وغيرهم من الليبراليين.
لقد كان ميكافيلي نقطة تحول هامة في تاريخ الفكر النهضوي ، حيث أشار إلى أن المجتمع يسير بأسباب (طبيعية). والقوى المحركة له هي (المصلحة المادية) و(السلطة). ومن أهم ما لاحظه هو الصراع بين (الجماهير الشعبية) و(الطبقات الحاكمة) فسار فكره سوياً مع نظرة “ليناردو دافينشي” ، دافينشي الرسام ، وذلك الفنان الذي فاجأ الكنيسة برسم (السيدة العذراء) بوجه فلاحة بدلا من الوجه الارستقراطي كما جرت العادة ، فأصبح ميكافيلي الشخصية المثالية لعصر النهضة ، حيث أشار إلى أن كل ما هو نافع جميل ، والنافع الجميل هو ضرورة إنسانية.
لقد أسس ميكافيلي بذلك لعلم الجمال ، ولكن جماعات الربح تلقفوا قوله هذا بنهم ، ووضعوا له تفسيراً على هواهم ، حيث أصبحت الميكافيلة هي الركض اللاهث وراء تحقيق الأرباح مهما كان الثمن.
يقول الباحثون الأوروبيون: من اللائق وصفه بالذكاء بدلاً من وصمه بالميكافيلية ، فميكافيلي لم يكن ميكافيليا. فبعد سقوط (آل مديتي) وانبثاق جمهورية فلورنسا عام ١٤٩٤م ، تقلّد ميكافيلي منصباً إدارياً في الحكومة ، وبعد سقوط الجمهورية وعودة آل مديتي للحكم مرة اخرى ، تم حبسه. ثم نفيه إلى قرية نائية. وخلال منفاه كان يخرج مبكراً للغابة ، يتبادل الأحاديث والشائعات مع الحطابين ، ثم يذهب للحانة ويتبادل الحديث مع الطحان والقصاب والبناء ثم يعود إلى منزله ليخلع الثياب الريفية ويرتدي ثياب النبلاء.
الغاية تبرر الوسيلة. قالها ميكافيلي لتوصيف حالة إقصاء جمهورية فلورنسا الفتية للقياصرة وتحجيم دور الكنيسة ورفض تفسير الظلم على أنه قدر ، حيث أدخل الفكر الفلسفي الأوروبي في طريق الواقعية ، وفتح الآفاق أمام نهضة أوروبية عارمة. هذا الفيلسوف العظيم الذي وضع حجر الأساس للثورة الفرنسية ، كما وضع (الديسمبريون) حجر الأساس للثورة البلشفية ، لم يتم إخراج فكرِه من سياقهِ وحسب ، بل كافؤوه بتشويه شخصه.. وجعله بطل الأنانية واللا أخلاقية ، ونسبت إليه الأعمال القذرة للأسياد القدامى والجدد على أنها من إبداعه ، وبالتالي فَهِمَ السذج أن ممارسة الرذيلة السياسية إنما ميكافيلي هو من نادى بها.
_______________